"شباب في الأصفاد".. كيف يحارب المجتمع المدني وتقوض الديمقراطية في جورجيا؟

"شباب في الأصفاد".. كيف يحارب المجتمع المدني وتقوض الديمقراطية في جورجيا؟
أحد السجون في جورجيا

في جورجيا ذلك البلد الذي يتطلع إلى مستقبل أوروبي، تتزايد الأصوات التي تدق ناقوس الخطر حول تراجع حقوق الإنسان وقمع الأصوات المعارضة، تُشكل قضية اعتقال الطالب الجورجي الشاب زفياد تسيتسخلادزي، مؤسس وزعيم حركة الشباب المؤيدة لأوروبا "دافيوني"، مثالًا صارخًا على هذا التدهور المقلق. 

ففي مشهدٍ يبعث على القلق، يُحتجز زفياد تعسفيًا منذ 4 ديسمبر 2024، على خلفية مشاركته في احتجاج سلمي قرب البرلمان الجورجي، هذه القضية ليست مجرد قضية فردية، إنها مرآة تعكس واقعًا أوسع من تضييق المساحات المدنية ومحاولات إسكات جيلٍ كامل من المدافعين عن الديمقراطية.

في 2 مايو 2025، قضت محكمة مدينة تبليسي بإبقاء زفياد تسيتسخلادزي رهن الاحتجاز، في جلسة لم يُستجوب فيها أي شهود، واكتفت المحكمة بالنظر في مسألة استمرار الاحتجاز، في انتهاك واضح للحق في محاكمة عادلة. 

وتُجادل المدعية العامة بأن احتجازه مبرر بخطر فراره أو ارتكاب جرائم جديدة، لكن المنظمات الحقوقية تُشير إلى أن هذه الاتهامات ملفقة بالكامل وذات دوافع سياسية، فـ "زفياد"، الذي يُعد مدافعًا صريحًا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتكامل الأوروبي، كان يقود حركات مدنية سلمية دفاعًا عن مسار جورجيا الأوروبي وقيمها الديمقراطية، وهو ما يثير تساؤلات جدية حول دوافع اعتقاله الحقيقية.

وتعد قضية زفياد تسيتسخلادزي، جزء من حملة أوسع تُشن لإسكات الأصوات المستقلة في جورجيا، بما في ذلك المحامون الطموحون والمدافعون عن حقوق الإنسان المؤيدون للتكامل الأوروبي.

غياب الأدلة وتلفيق التهم

اعتُقل زفياد تسيتسخلادزي تعسفيًا من قبل إدارة الشرطة الجنائية المركزية التابعة لوزارة الداخلية في تبليسي، خلال حملة قمع حكومية للمظاهرات المؤيدة للاتحاد الأوروبي، بعد أن أوقف الحزب الحاكم محادثات التكامل مع الاتحاد، وُوُجهت إليه تهمة تنظيم وقيادة نشاط جماعي عنيف بموجب المادة 225، المادتين 1 و2 من القانون الجنائي الجورجي، ويواجه عقوبة السجن لمدة تتراوح بين ست وتسع سنوات. 

واعتُقل متظاهران سلميان آخران بشكل تعسفي: فيفيكيا كاسرادزي، وفاسيل كادزيلاشفيلي، كما تم اعتقال خمسة متظاهرين سلميين آخرين بشكل تعسفي: جيورجي جورجادزه، وإيراكلي ميمينوشفيلي، وإنصاف علييف، وتورنيك جوشادزه، ونيكولوز جافاخشفيلي، واتهموا بالمشاركة في أعمال عنف جماعي، مع إمكانية الحكم عليهم بالسجن لمدة تراوح بين أربع إلى ست سنوات.

المفجع في الأمر أن هذه الاتهامات تبدو ملفقة بالكامل، فبعد مراجعة 14 مجلدًا من مواد القضية، ذكرت منظمة الشفافية الدولية في جورجيا أنه "لم يكن هناك دليل واحد –لا شهادة شهود، ولا تسجيلات صوتية أو مرئية، ولا أي وثائق مكتوبة– من شأنه أن يثبت أن المتهمين قد خططوا مسبقًا للانخراط في أعمال عنف جماعية، أو أن لديهم منظمًا أو قائدًا أصدر الأوامر، أو كانوا على دراية بغرض الجماعة المنظمة ونواياها الإجرامية"، وهذه النتائج تُشير بقوة إلى أن القضية جزء من حملة تضليل يشنها الحزب الحاكم "الحلم الجورجي" لتشويه سمعة الاحتجاجات وقمعها.

"قوانين العملاء الأجانب"

يرتبط تدهور بيئة حقوق الإنسان في جورجيا ارتباطًا وثيقًا باعتماد تشريعات "العملاء الأجانب" القمعية، و أبرز هذه القوانين هو قانون "شفافية النفوذ الأجنبي" الذي دخل حيز التنفيذ في مايو 2024، بالإضافة إلى "قانون تسجيل العملاء الأجانب" وتعديلات قانون "المنح"، وتُقيد هذه القوانين بشكل صارم وغير قانوني الحق في حرية تكوين الجمعيات والتعبير والحق في الخصوصية، ما يُحدث تأثيرًا بالغًا، وربما مدمرًا، على المجتمع المدني في جورجيا. 

وتهدف بوضوح إلى شيطنة المنظمات غير الحكومية المستقلة التي تتلقى تمويلًا أجنبيًا، ووصمها بـ"العملاء الأجانب"، وهو ما يحد من قدرتها على العمل ويُرهب الناشطين.

ويُمثل تاريخ جورجيا الحديث صراعًا مستمرًا بين تطلعاتها نحو الديمقراطية والتكامل الأوروبي، وبين واقع سياسي غالبًا ما يتسم بالاستقطاب والتحديات الداخلية.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، سعت جورجيا إلى ترسيخ مسارها الديمقراطي والانفصال عن النفوذ الروسي. شهدت البلاد "ثورة الورود" في عام 2003، التي أطاحت بالحكومة وأسست لمرحلة جديدة من الإصلاحات الديمقراطية والتوجه نحو الغرب، وتحديداً نحو التكامل مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، هذا الطموح الأوروبي ليس مجرد سياسة خارجية؛ إنه يُمثل تطلعات شعبية عميقة نحو الحريات، سيادة القانون، والازدهار الاقتصادي.

تراجع ديمقراطي وعنف

الاحتجاجات التي اندلعت في جميع أنحاء جورجيا في نوفمبر 2024، عقب إعلان الحكومة تعليق مفاوضات انضمام جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي، كشفت عن تراجع مقلق في الالتزام بالقيم الديمقراطية،  وجاء هذا الإعلان بعد فترة وجيزة من إعادة انتخاب حزب "حلم جورجيا" الحاكم في انتخابات وصفت بـ"غير العادلة".

ورغم أن هذه الاحتجاجات ظلت سلمية في معظمها، فإن الشرطة استخدمت خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود، بالإضافة إلى القوة المفرطة وسوء المعاملة أثناء نقل المتظاهرين، وأسفر ذلك عن إصابات عديدة في صفوفهم وأكثر من 480 اعتقالًا تعسفيًا، بعضها يرقى إلى مستوى المعاملة اللاإنسانية، وربما التعذيب، بحسب تقارير حقوقية.

وتُشير التقارير الدولية، ومنها تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى أن هذه الإجراءات تُشكل انتهاكات خطيرة لحقوق التجمع السلمي وحرية التعبير. كما أن تراجع تصنيف جورجيا في مؤشرات الديمقراطية العالمية يعكس مدى تدهور وضع حقوق الإنسان والحريات في البلاد.

نداءٌ عالمي

يدين المرصد بشدة استمرار الاحتجاز التعسفي لزفياد تسيتسخلادزه وجميع المتظاهرين السلميين الآخرين، والذي يبدو أنه يهدف فقط إلى معاقبتهم على أنشطتهم المشروعة في مجال حقوق الإنسان وممارسة حقهم في حرية التعبير، وهذه الاعتقالات تُعد رسالة واضحة بأن الحكومة الجورجية لا تتسامح مع المعارضة، حتى لو كانت سلمية وتطالب بالالتزام بمسار ديمقراطي أعلنت هي نفسها عنه.

لذلك، دعا المرصد السلطات الجورجية إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن زفياد تسيتسخلادزه وجميع المدافعين عن حقوق الإنسان المعتقلين تعسفياً في البلاد، ووضع حد لجميع أشكال المضايقات القضائية ضدهم، ويعتمد مستقبل جورجيا الديمقراطي الأوروبي على احترامها لحقوق مواطنيها، وعلى سماحها لأصوات الشباب والمجتمع المدني بالصدح بحرية، دون خوف من الاعتقال أو القمع. فالحلم الأوروبي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر بوابة الحريات وحقوق الإنسان.

وتقع دولة جورجيا، في مفترق طرق أوروبا وآسيا، تتميز بتاريخ طويل من العلاقات المعقدة مع روسيا وتطلعات مستمرة نحو الاندماج الأوروبي الأطلسي.

منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، اتخذت جورجيا مسارًا واضحًا نحو التقارب مع الغرب، وتحديدًا مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ورغم هذا المسار، تواجه جورجيا تحديات داخلية وسياسية معقدة تؤثر على استقرارها ومسارها الديمقراطي.

تحديات داخلية

وصل حزب “الحلم الجورجي” إلى السلطة في عام 2012، ومنذ ذلك الحين، يُتهم بالابتعاد تدريجياً عن المعايير الديمقراطية الأوروبية، بما في ذلك تضييق الخناق على المعارضة والمجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة.

وأحد أبرز التحديات هو إصرار الحزب الحاكم على تمرير ما يُسمى بقانون "شفافية النفوذ الأجنبي" (أو "قانون العملاء الأجانب" كما يُعرف شعبيًا). يفرض هذا القانون على المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي تتلقى أكثر من 20% من تمويلها من الخارج التسجيل باعتبارها "منظمات تحمل مصالح قوة أجنبية".

وتزعم الحكومة أن الهدف هو "زيادة الشفافية" وحماية السيادة الوطنية من "التدخل الأجنبي".

وتُدين المنظمات الحقوقية الدولية (مثل منظمة العفو الدولية، هيومن رايتس ووتش) والاتحاد الأوروبي هذا القانون بشدة، معتبرين أنه نسخة جورجية من قوانين مماثلة تُستخدم لقمع المعارضة والمجتمع المدني في روسيا ودول أخرى. يرى المنتقدون أنه يهدف إلى وصم وتهميش المنظمات التي تراقب حقوق الإنسان وتُعزز الشفافية.

وأثار هذا القانون احتجاجات واسعة النطاق في جورجيا، حيث يُنظر إليه على أنه يُهدد مسار البلاد نحو الاتحاد الأوروبي ويُبعدها عن القيم الديمقراطية. استخدمت الشرطة القوة المفرطة ضد المتظاهرين، ما أثار إدانات دولية.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية